الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لُقْمَانُ الْحَكِيمُ؛ رَجُلٌ صَالِحٌ ذُو أَمْرٍ رَشِيدٍ، وَعَقْلٍ سَدِيدٍ، أَعْطَاهُ اللهُ -تَعَالَى- الْحِكْمَةَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)[لقمان: 12].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الْحِكْمَةُ: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فِي الْوًقْتِ الَّذِي يَنْبَغِيِ. ا.ه (مدارج السالكين).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ -رحمهما الله-: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ» ا.ه (مدارج السالكين).
وَالْحِكْمَةُ نِعْمَةٌ وَمِنَّةٌ مِنَ اللهِ، يُنْعِمُ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[البقرة:269].
وَلُقْمَانُ امْتَثَلَ قَوْلَ اللهِ -تَعَالَى-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ)[البقرة:11]؛ فَأَوْصَى ابْنَهُ بِعَشْرِ وَصَايَا تَجْمَعُ الدِّينَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ.
الْوَصِيَّةُ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[ لقمان: 13 ].
فِيِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَمَرَ لُقْمَانُ ابْنَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ؛ وَذلِكَ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97 ]
وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ).
الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَصِيَّتُهُ لِابْنِهِ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ -تَعَالَى- فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ: (یَـٰبُنَیَّ إِنَّهَاۤ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةࣲ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَـٰوَ اتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ یَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ)[لقمان: 16]، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ هُوَ الرَّقِيِبُ -سُبْحَانَهُ- الْمُطَّلِعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَيْفَ لَوْ كَانَ؛ قَالَ تَعَالَى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12].
الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ والرابعة والخامسة : وَهِيَ: إِقَامَةُ الصَّلاَةِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرُ: (یَـٰبُنَیَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَكَ إِنَّ ذَ لِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ)[ لقمان: 17].
فَإِقَامَةُ الصَّلاَةِ بِمَعْنَى: الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ وَأَطْيَبُهَا وَأَزْكَاهَا وَأَنْفَسُهَا وَأَحَبُّهَا إِلَى اللهِ؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»(متفق عليه).
وَأَمَّا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَشَعِيرَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَمِهْنَةُ الأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران: 104].
وَأَمَّا الصَّبْرُ فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»(متفق عليه).
وَالصَّبْرُ يَكُونُ عَلَى الطَّاعَةِ بِامْتِثِالِهَا، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ بِاجْتِنَابِهَا، وَعَلَى مَصَائِبِ الدُّنْيَا الَّتِي لاَ يَسْلَمُ مِنْ مَصَائِبِهَا أَحَدٌ.
الْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )[لقمان: 18].
أَيْ: تَجَنَّبْ إِمَالَةَ الْوَجْهِ، وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّعَاظُمَ وَالْعُبُوسَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَالْبَطَرَ وَالتَّفَاخُرَ بِالنِّعَمِ، وَنِسْيَانَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ، وَكَذَلِكَ تَجَنَّبْ الْعُجْبَ بِالنَّفْسِ، وَالاِخْتِيَالَ وَالتَّبَخْتُرَ فِي الْهَيْئَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُتَكَبِّرٍ، وَلاَ يُحِبُّ كُلَّ مُتَبَاهٍ فِي نَفْسِهِ وَفِي هَيْئَتِهِ وَفِي قَوْلِهِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»(رواه مسلم).
اللَّهُمَّ اهْدِنَا لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ وَالأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ وَصَايَا لُقْمَانَ الْحَكِيمِ لاِبْنِهِ؛ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ السابعة: قَوْلُهُ: (وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)[لقمان: 19]؛ أَيْ: لاَ يَمْشِي مُتَمَاوِتًا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِيُرَى خُشُوعُهُ وَتَنَسُّكُهُ، وَلاَ يَمْشِي بَطَرًا وَتَكَبُّرًا؛ وَهِيَ مِشْيَةٌ خَسَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
الْوَصِيَّةُ الثامنة: وَهِيَ خَاتِمَةُ الْوَصَايَا: قَوْلُهُ: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان: 19]، وَهُوَ أَدَبٌ عَالٍ غَالٍ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ إِلَى حُسْنِ الاِعْتِدَالِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، وَأَنْ يَخْفِضَ مِنْ صَوْتِهِ؛ لأَنَّ رَفْعَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ، وَكَفَى بِهِ قُبْحًا أَنْ يُشَبَّهَ بِصَوْتِ الْحَمِيرِ؛ الَّذِي هُوَ أَنْكَرُ الأَصْوَاتِ، وَأَقْبَحُهَا وَأَبْشَعُهَا.
فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَتَمَثَّلُوا هَذِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةَ، وَالْقِيَمَ النَّافِعَةَ، وَعَلِّمُوهَا بِتَلَطُّفٍ وَرَحْمَةٍ أَوْلاَدَكُمْ لِنَجْنِيَ ثِمَارَهَا، وَيَتَفَيَّأَ الْمُجْتَمَعُ ظِلاَلَهَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»(رواه مسلم).
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.