كيف تبني بيتاً في الجنة

الخطبة الأولى:

الحمد لله العليم الحكيم، العلي العظيم، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وأحكم شرائعه ببالغ حكمته بيانًا للحق وتبصيرًا، أحمد وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، صلوا عليه وسلموا كي تغنموا ، اللهم صل وسلم وبارك على آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم المآب والمصير.

أما بعد:

فيا عباد الله -أيها المسلمون-: أرأيتم لو أن أحدنا أراد بناء قصر على نهر من أشهر وأجمل أنهار العالم، كاللوار والدانوب، وغيرها، تلك الأنهار التي تجري من بين الجبال الخضراء، وتحفها غابات من الأشجار، وتتمتع بأجواء بلغت غاية الروعة والاعتدال، لو أن أحدنا أراد بناء قصر في تلك الأماكن كم سيدفع من الأموال ويبذل من الوقت والجهد؟

لا شك أنه سيبذل الكثير، بل إن من أراد أن يبني بيتًا في بلده على مساحة صغيرة من الأرض سيبذل الكثير من ماله ووقته وجهده وفكره.

وهنا يأتي سؤال: هل من الممكن أن يبني الإنسان قصرًا من أجمل القصور بين الأشجار والأنهار بشيء يسير، وجهد بسيط، لا يدفع ريالًا واحدًا، ولا يتعب إلا دقائق معدودة؟

أقول: نعم، يستطيع بناء قصر لا مثيل له في مكان لا مثيل له، يستطيع بناء قصر تجري من تحته أنهار العسل واللبن والخمر والماء، قال ربنا -جل وعلا-: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد: 15].

يستطيع بناء قصر ليس من الحجارة والحديد بل من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، قال ربنا -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [يونس: 9].

تجري من خلال قصورهم وبساتينهم في جنة عالية قطوفها دانية، قال عليه الصلاة والسلام: “إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا”، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم”، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: “بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين” [متفق على صحته]، قال الله: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [الزمر: 20]، وقال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].

عباد الله: بيوت في الجنة، حور وقصور على ضفاف الأنهار في جوار العزيز الغفار بأعمال يسيرة؛ منها: المحافظة على السنن الرواتب، قال عليه الصلاة والسلام-: “من ثابر على ثنتي عشرة ركعةً من السنة بنى الله له بيتًا في الجنة؛ أربع قبل الظهر وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر” [صحح الألباني].

وعن أم حبيبة -رَضي الله عنها- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: “من صلى اثنتي عشرة ركعةً في يوم وليلة بني له بيت في الجنة” [رواه مسلم].

هذه الركعات لا تدفع معها ريالًا واحدًا، ولا تستغرق إلا دقائق يسيرة.

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا فقد ولده،إذا فقد ثمرة فؤاده فصبر على قضاء الله وحمد الله على ما قضى وقدر؛ فعن أبي موسى الأشعري -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: “إذا قبض الله ولد العبد قال الله للملائكة: قبضتم ثمرة فؤاد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: فما قال؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد” [رواه الترمذي].

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا بنى لله مسجدًا يبتغي الأجر من الله لا يطلب شيئًا من حظوظ الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: “من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة أو أصغر، بنى الله له بيتًا في الجنة” [صححه الألباني].

بناء المسجد في بعض الدول الإسلامية لا يكلف كثيرًا، كثير من الناس يشتري سيارةً تتجاوز قيمتها مائتي ألف، هذه تبني أربعة مساجد في بعض الدول الإسلامية.

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا ترك الكذب والمراء وحسن خلقه، قال عليه الصلاة والسلام: “أنا زعيم -أي ضامن- في بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه” [رواه أبو داود وصححه الألباني].

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، قال عليه الصلاة والسلام: “من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناداه مناد: بأن طبت وطبت ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا” [رواه الترمذي وصححه الألباني].

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام والقيام، قال عليه الصلاة والسلام: “إن في الجنة غرفًا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام”

ويبنى للعبد بيت في الجنة إذا رأى فرجةً في الصف فتقدم وسدها، قال عليه الصلاة والسلام: “من سد فرجةً بنى الله له بيتًا في الجنة، ورفعه بها درجةً” [صححه الألباني].

عباد الله: بيوت بل قصور تبنى في جنات عدن على ضفاف أنهار الماء والعسل واللبن والخمر، فيها حور عين، وولدان مخلدون، لا يعلم روعتها وجمالها إلا الذي خلقها؛ وفرق والله بين أن يكون لك -عبد الله- قصر في الجنة وبين أن يكون لك قصور تتنقل من قصر إلى قصر، الملوك في الدنيا يتفاخرون بكثرة قصورهم، فما أجمل أن يكون لك قصور هناك، هناك في دار الخلود والملك الكبير، قال ربنا -جل وعلا-: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 20].

قصور وحور بأعمال يسيرة، لكن العامل لها قليل؛ لأن الأمر توفيق، والموفق من وفقه الله.

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير رسله وأوليائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا معاشر المسلمين: اعتاد الناس أن يزينوا بيوتهم بأجمل الأثاث من فرش وتحف وورود وغيرها، فهل تزين البيوت في الجنة؟

نقول: نعم، تزين بالنخيل والأشجار والكنوز التي لا يعلم جمالها إلا الله؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- مر به وهو يغرس غرسًا، فقال: “يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟” قلت: غراسًا لي، قال: “ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟” قلت: بلى يا رسول الله، قال: “قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة” [صححه الألباني]، وقال عليه الصلاة والسلام: “لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر” [رواه الترمذي وصححه الألباني]، وقال عليه الصلاة والسلام: “من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة” [رواه الترمذي وصححه الألباني]، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري -رَضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: “ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: لا حول لا قوة إلا بالله”.

اللهم أسكن قلوبنا حبك وتعظيمك والخوف منك، واجعلنا ممن يسكون جنة الفردوس الأعلى، اللهم اجعلنا ممن يقال لهم: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73].

اللهم اجعلنا ممن يقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) [ق: 34].

عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالًا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.